غزة: الانتصار من رحم المذبحة
يبدو أن ما يتعرَّض له الفلسطينيون من اعتداءات ومآسٍ ليس مقصورًا على ما يُمارسه ضدَّهم العدو الصهيوني بقوَّاته وجحافله، التي استأسدت على شعب لا يملك من نفسه سوى أرْواحه التي يقدِّمها فداءً لله وللدِّفاع عن أرض العروبة والإسلام؛ إذْ توالت عليه الطَّعنات ممن حسب أنَّهم إخوته يَحمون ظهرَه ويدافعون عنْه، إن لم يكُن من منطلق الواجب الديني ونصْرة الأُخوَّة، فليكُن من منطلق نَفْعيٍّ لِحماية العُمق الإستراتيجي والأمْن القومي، وتأمين الخط الأمامي للمقاومة، التي تحمَّلت على عاتقها تقديمَ الكثير من التضحيات.
فلم تكن الصَّدمة فيما قامت به الطَّائرات الصهيونيَّة من قصْف القِطاع، واستِهْداف المدنيين، والمنازل، والمساجِد، ومُحاولات معاقبة كلِّ أبناء غزَّة؛ لأنَّهم التفُّوا وصمدوا مع حركة حماس، التي أَبَتْ أن تُواصل مسلسل التنازُلات التي بدأَتْها بعض الحركات الفلسطينيَّة تحت مسمَّى عمليَّة السَّلام؛ بل كانت الصدمة الكبرى من قِبَل الأشقَّاء، الذين طالما تشدَّقوا بدفاعهم عن القضيَّة وببَذْل الجهود من أجل استِرْداد الحق الفلسطيني الضائع؛ فقد كان الواقع أنَّهم لم يكتفوا بالتَّخلِّي والتَّخاذُل، بل امتدَّ ذلك إلى التآمُر والتعاوُن مع الاحتِلال، بل والتَّحريض في أحيان كثيرة ليس إلا؛ ليكون الجميعُ سواءً، فلا يبدو فرْقٌ بين مُقاومةٍ أبيَّة واستِسْلام خسيسٍ كان شيمةَ حكَّامٍ ترهَّلوا، ولم يعودوا منشغِلين إلا بالدفاع عن كراسيِّهم المكسورة.
إعلان الحرب:
لقد كان أوَّل ما اجترَّتْه الذاكرة العربيَّة بمجرَّد أن وجَّهت الطائرات الصهيونيَّة صواريخها ناحية غزَّة: تلك الكلِمات الأخيرة التي أدْلت بِها وزيرة الكيان الصهيوني تسيبي ليفني قبل مغادرتِها لمصر، والتي أكَّدت خِلالَها أنَّ بلادها ستعمل على تغْيير الواقع على أرْض غزَّة، وأنَّ ذلك يأتي تفهُّمًا للاحتِياجات المصريَّة واحتياجات المنطقة، فقد كان ذلك يعني لدى الشَّارع العربي والإسلامي معنًى واحدًا، وهو أنَّ تل أبيت حصلت على الضَّوء الأخضر من القاهِرة، التي ربَّما تمثِّل العقبة الكؤود الوحيدة أمام الكيان الصهيوني لشنِّ أيَّة حرب على الفلسطينيين.
في الوقت الذي لم يتصرَّف فيه وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط، أو حتَّى رأس النظام الرئيس حسني مبارك بشكْلٍ يُعطي إيحاءً برفْض مثل هذا التصرُّف، كأن يتمَّ طرْدُها مثلاً أو الرَّدُّ عليْها بعنف خلال المؤتَمر الصحفي الذي أعلنت فيه ذلك، أو على الأقلِّ إرسال تحذير واضح إلى الفلسطينيين في غزَّة؛ لأخذ احتِياطاتهم وحذرهم تَحسُّبًا للعدوان المحتمل.
بل إنَّ الأسوأ هو ما نشرَتْه بعض الصحف العربية حول قيام أحد المسؤولين المصريين بالاتِّصال بأحد وزراء حركة حماس؛ لإبلاغه بأنَّ الاحتلال لا يعتزِم توجيه ضرْبة في الوقت الحالي لغزَّة، وهو ما طمْأن الحركة فلم تتحرَّك لإخلاء المقرَّات الأمنيَّة التي كانت تُسارع بإخْلائها حالَما استشْعَرَتْ قُرْب حدوث اعتِداء صِهيوني، وهو الأمر الذي ربَّما يكون فيه الكثير من المبالغة، غير أنَّ نشْره والاتِّكاء عليه يُعطي دلالة خطيرة بأنَّ ثمَّة شعورًا لدي كثيرين بأنَّ هناك تواطؤًا عربيًّا يستهدف الفلسطينيين في غزَّة.
لقد كان المصريُّون والعرب - بل والمسلمون أجمع - في شوقٍ شديد إلى أن يَحرص كلُّ من الوزير أبو الغيط أو الرئيس المصري خِلال تصريحاتِهما التي أدْلَيَا بِها في أعْقاب المذبحة، على نفْي عِلْمَيهما بخطَّة العدوِّ بالاعتداء على غزَّة؛ إلاَّ أنَّ هذا لم يحدُث، وهو ما زاد الطينة بلَّة، على الرغْم من أنَّهما حرَصا في تصريحاتِهما على تلافي أو التَّخفيف مما أُثير ضِدَّهما من انتِقادات، تمثَّلت في لهجة التحامُل الشَّديد منهما على حركة حماس، وتَحميلها مسؤولية العدوان، دون توجيه أي نقْد أو لوْم أو تَحميل مسؤولية للكيان الصهيوني، فكلُّ ذلك لا يُعْفِي من الصَّمت إزاءَ إعلامهما بالمذبحة، وهو ما كانت هذه التظاهُرات أمام السفارات المصريَّة في بعض الدول نتيجةً طبيعيَّة له، للدَّرجة التي اقتحم المتظاهِرون فيها بعض هذه السفارات.
وجاءت كلِمات الرئيس عباس أبو مازن لتكشِف عن بُعد آخَر، لم يكُن ليتوقَّعه أحد، فمهْما بلغت الخلافات السياسيَّة فيما بيْن أطراف الشعب الواحد لا يمكن أن يستعدي طرفٌ مِنهما العدوَّ ضدَّ الطَّرف الآخر، فالأرض أرض الفلسطينيين، والدَّم دم الفلسطينيين، ولا يُمكن للرصاص الصهيوني أن يفرِّق بين دم ودم، فالدَّائرة على الجميع، والكل يُمكن أن يكون الضحيَّةَ والمغدورَ به، فالمسألة لا تعدو عن فرق توقيت.
إنَّ ما حرصت عليْه القيادات العربيَّة والفلسطينيَّة المبجَّلة والمعنيَّة بالشأن بالدرجة الأولى - أن تؤكِّد على جهْدِها ودوْرِها من أجْل استِحْثاث حركة حماس على ألاَّ تُنهي التَّهدئة، وأن تستمرَّ فيها، مع أنَّ الخاسر الأوَّل هو هذا الشَّعب الذي يقدِّم كلَّ يوم المزيد من الشهداء والمعتقلين، ويتعرَّض لأصناف الاعتِداءات بِلا أي مقابل وبلا أي إيلام لعدوٍّ، لا يُوقِفه عند حدِّه إلا الألمُ والخسارة، ونسُوا - أو تناسَوا - أن دَورهم الحقيقيَّ هو حِفْظ هذا الدم، وحِماية هذا الشَّعب، لا التِماس المبرِّرات للكيان الصهيوني حتَّى يستمرَّ في اعتدائه؛ من أجل تَحقيق مصالحَ سياسيَّة ضيِّقة تتمحْور حول التخلُّص من حركة حماس.
إنَّ ما سلكتْه بعض القيادات العربية والفلسطينية نقشٌ أسودُ حُفِر على صفحات التاريخ، مهْما حاولتِ الآلة الإعلاميَّة التي يَمتلكونها من تَزييفِها وتَجميلها وتحميلها ما تنطق به الأحداث والوقائع، فما فعلوه ذنب لا يُغْتَفر؛ إلا إذا سارعت هذه القيادات في اتخاذ مواقف تعكس طموحات وتطلُّعات شعوب هذه الأمَّة؛ للحفاظ على عزَّتها وكرامتها المهْدرة، ويعوِّض أُسَر الشهداء الذين فقدوا ذَوِيهم بلا ثَمن، وهو أمر نشكُّ جميعًا في أن يكون على يد أمثال هؤلاء، خاصَّة وقد كانت التَّصريحات التي أدلى بِها زعيم أكْبَر دولة عربيَّة - وقت كتابة هذه السطور - ما زالت تكشِف عن انحياز غريبٍ للاحتِلال على حساب الفلسطينيِّين؛ إذ يُطالب حركة حماس في البدْء في التَّهدئة مجدَّدًا مع عدوٍّ يُعلن كلَّ لحظةٍ باستِمْراره في القتْل والتَّدمير؛ بل إنَّه يُعطي المبرِّر الرسمي والقانوني لإسرائيل بأن تراقب المعبر الوحيد الذي يمكن للفلسطينيين من خلالِه العبور وتنفُّس الصعداء؛ بحجَّة أنَّ غزة أرض محتلَّة ولـ "إسرائيل" الحقُّ في مراقبة هذا المعبر، وهو ما يكشف عمَّا وصل إليْه هؤلاء من ضعْف واستِسلام.
تحيات أخوك : أنــــس